حين قرن الله السماء بالأرض، وجعل من فعل "القرن" سنّة كونية، كان لا بد من وجود مخلوق يجمع بين هذين العالَمين: بين العلو المعرفي والسفل المادي، بين الروح والطين، بين الإلهام والغريزة. وهذا المخلوق هو الإنسان، الذي خُلق ليكون النفس الواعية التي تحمل الرسالة وتختبرها.
النفس في القرآن ليست مجرد "الروح"، ولا هي الجسد، بل هي الكيان الذي يعي، ويستقبل، ويحاسب. هي الذات التي يوجه لها الخطاب، والتي خوطبت في أولى الرسالات، بل كانت محور التكليف الإلهي منذ لحظة الخلق الأولى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.
منذ تلك اللحظة، بدأ الخطاب الإلهي للبشرية، وبدأت الرسالة تأخذ مجراها من السماء إلى الأرض عبر الإنسان نفسه. فالنفس هي أول محل للوحي، وأول ميدان للصراع، وأول معبرٍ لفهم القانون الإلهي. يقول الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. هنا نرى أن الرسالة تبدأ من الداخل، من الإلهام، من الفطرة، من الوعي الأول الذي يسبق الكتاب والشرائع.
ومع أن الرسالات جاءت لاحقًا عبر الأنبياء، فإنها لم تكن إلا تذكيرًا لما هو مركوز في النفس، وتنشيطًا لما هو مودَع فيها. يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾. فالقرآن لا يأتي بجديد على مستوى الفطرة، بل يفعّل الموجود ويعيد ربط النفس بمصدرها العلوي.
إن النفس البشرية بهذا المعنى ليست حيادية، بل مهيّأة لتلقّي الوحي، مشدودة بين طرفين: السماء بما تمثّله من معرفة وقداسة، والأرض بما تمثّله من اختبار وتحقق. والقرآن حين يخاطبها، فإنه يخاطبها بلغة تعرفها: القسم، البيان، الضمير، النداء، والحجّة.
من هنا نفهم أن كل الرسالات لم تكن سوى دعوة لهذه النفس أن تتذكر، أن ترجع، أن تتوازن، أن تفهم ذاتها ودورها، ضمن فعل "القرن" العظيم بين المعنى والمادة.
في الفصل القادم، سننتقل إلى موضوع "الروح"، باعتبارها الصلة الغيبية التي تربط النفس بالله، والتي كثيرًا ما خفي معناها عن المفسّرين، رغم مركزيتها في الخطاب القرآني.
حقوق النشر © 2025 فجر القرآن - جميع الحقوق محفوظة
We use cookies to analyze website traffic and optimize your website experience. By accepting our use of cookies, your data will be aggregated with all other user data.